من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الثاني
 بيان أن الله خالـق الأسباب والـمسبَّبات والإصابة بالعين ِ

الدرس الواحد والثلاثون
بيان أن الله خالـق الأسباب والـمسبَّبات
والإصابة بالعين

جامع الخيرات - الجزء الثاني

جامع-الخيرات
    درس ألقاه الـمـحدث الشيـخ عبد الله بن مـحمَّد العبدرِىّ رحمه الله تعالى وهو فِى بيان أن الله خالـق الأسباب والـمسبَّبات والإصابة بالعين.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمد لله ربِّ العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن صلوات الله البرّ الرَّحيم والـملائكة الـمقربين على سيِّدنا مـحمَّد أشرف الـمرسلين وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والـمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.
أما بعد فإن الله تبارك وتعالى هو خالـق كل شىء خلق الأسباب وخلق الـمسبَّبات لهذه الأسباب، خلق الدواء وخلق الشفاء عند استعمالـه، خلق الطعام وخلق الشّبع عند أكله، وخلق النار وخلق الـحُرقة عند مَسّها، فالأسباب لا تخلق مسبباتها فالله تعالى هو خلق هذه النار وهو الذِى يـخلق الإحراق ليست النار تخلق الإحراق كذلك خَلق الـخبز وجعله سببًا للشبع فالله تعالى هو الذِى يـخلق هذا الشبع ليس الـخبز يـخلق هذا الشبع لأنه يـجوز عقلًا أن يأكل الإنسان الطعام ولا يـحصل الشبع كذلك يـجوز أن يمس الإنسان النار ولا يـحصل الإحراق كما حصل لإبراهيم عليه السلام الذِى أُلْقِىَ فِى نار عظيمة لـم يستطع الكفار أن يُمسكوه بأيديهم فيرموه فيها من شدة وهجها بل عملوا منجنيقًا ووضعوه على الـمنجنيق فقذفوه إلى النار ورغم ذلك فإنها لـم تحرقه ولا ثيابه فهذا دليل على أن النار لا تخلق الإحراق بل الله تعالى يـخلق عند مماستها الإحراق. كذلك الـخبز لا يـخلق الشبع والـماء لا يـخلق الرّىّ بل الله تعالى يـخلق الرّىّ عند شرب الـماء فأغلب الناس إذا أكلوا وشربوا أجسامهم تظل متـماسكة وقواهم تظل على حالـها لأن الله تعالى جعل هذا السبب مرتبطًا بالـمُسبَّب وقد يـخرق الله تعالى هذه العادة فيوجد السبب ولا يوجد الـمسبَّب لأن الله لـم يشأ وجوده. كذلك الأدوية جعلها الله تعالى سببًا للشفاء فكثيرٌ من الناس يستعملون الأدوية ولا يتعافون وكثيرٌ ءَاخَرُونَ يستعملون ذلك الدواء نفسه فيتعافون مع أن الـمرض واحد والدواء واحد فما الذِى اقتضى ذلك نقول أولئك الذين استعملوا الدواء لـمرض فتعافوا به شاء الله تعالى أن يـحصل لهم الشفاء بعد استعمال هذا الدواء والذين لـم يتعافوا به فالله تعالى لـم يشأ لهم أن يَتَعَافَوْا باستعمال هذا الدواء إذًا فالدواء لا يـخلق الشفاء هذا الذِى نحن نستنتجه من هذا.
كذلك قصة رحمة بنت إبراهيم التِى مضى عليها ألف ومائة وشىءٌ1 لأنها كانت فِى الـقرن الثالث الـهجرِىّ، فهذه رحمة عاشت نحو ثلاثين عامًا لا تأكل ولا تشرب وهِىَ صحيـحة الـجسم صحيـحة الفكر والأعصاب، ما منعها ترك الأكل والشرب من قوة الـمشىِ ولا منعها من صحة الفكر ولا الفهم،  ظلت طيلة هذه الـمدة بلا أكلٍ ولا شرب وهِىَ صحيـحة الـجسم ليكون هذا عبرة للـمؤمنين حتى يعرفوا أن الله تعالى هو الذِى يـخلق الصحة وهو الذِى يـحفظ الصحة فيمن يشاء من عباده إلى الوقت الذِى شاء على حسب علـمه الأزلِىّ فلو كانت الصحة يـخلقها الأكل والشرب ما عاشت هذه الـمرأة كل تلك الـمدة الطويلة وهِىَ صحيـحة الفكر صحيـحة الـجسم. ومنذ مدة خمسة عشر عامًا كنتُ بـحلب فقال لِى أحد مشايـخ حلب إن هناك رجلًا من أهل الـجزيرة وهو شيـخٌ من أهل العلـم لـم يأكل ولـم يشرب منذ أربعة عشر عامًا وهو يتجول يسافر من بلد إلى بلد، قال نزل عندِى ضيفًا فلـم يأكل ولـم يشرب. كذلك حصل فِى الـحبشة أن شيـخًا من الأولياء كان مولعًا بالعبادة يـحب الصلاة كأنه يلتذ بالصلاة ما لا يلتذ كثير من الناس بالأكل والشرب هذا من شدة ما هو مولع بالصلاة صار يـخرج إلى غابة قريبة من الضيعة حتى يصلّىَ كما يشاء ولا يشغله أحد فظل يصلّى هناك حتى حصل له ذات يوم استغراقٌ وهو قائمٌ على قدميه صار لا يتكلـم مع أحد ولا يأكل ولا يشرب ولا يـجلس طرفةَ عينٍ لا فِى ليل ولا فِى نهار والناس الذين كانوا يمرون فِى تلك الناحية صاروا يعطفون عليه. لـما رأوه تحت السماء وليس فوق رأسه شَىْءٌ بَنَوْا فوق رأسه عريشًا حتى تظله من الشمس وهو لا علـم ولا شعور له بهم فأحدُ أصدقائِى الطيبين قال قلت فِى نفسِى لعل الشيـخ يظل بالنهار واقفًا وبالليل يستريـح لأُراقِبَنَّهُ الليلة قال ذهبت إليه فَبِتُّ أراقبه الليلَ كله فلـم أره يـجلس بل هو كما بالنهار حتى قضى شهرين وهو فِى هذه الـحال ثم ذهبَ من تلك الأرض إلى العاصمة ظل هناك سنين ثم أنا بعد ذلك زرتُهُ. هذا الرجلُ كان بارًّا بأمه وكان إذا حصل فِى الضيعة وفاةٌ يهتـم بتجهيز الـميت. وكان قد تعلـم علـم الدين وعاش نحو سبعين عامًا من العمر رحمه الله. هذا فيه دليل لنا على أن الأكل والشرب والاستراحة ليست هِىَ التِى تخلق الصحة وسلامة الـجسم إنـما الله هو الـخالـق الذِى يـخلق الصحة وسلامة الـجسم. كل هذا دليل لنا لنعتبرَ ولنزدادَ يقينًا بأن الله تعالى هو خالـق كل شَىْءٍ فبـمشيئة الله تعالى يـحصل بالأكل الشّبَعُ وبشرب الـماء الرِىُّ وبـمماسّة النّار الإحراقُ أما بدون مشيئة الله لا يـحصل شَىْءٌ من الـمُسَبَّبَاتِ. كذلك الله تعالى خلق الأمراض وخلق الأدوية فجعل بين الأدوية والأمراض علاقة فإذا تناول الإنسان الدَّواءَ يَتَعَافِى إن شاء الله فِى الأزل أن يتعافِى هذا الإنسان بهذا الدواء أما إن لـم يشأ الله تعالى فِى الأزل أن يتعافِى هذا الإنسان بهذا الدواء لا يتعافِى.
    كذلك السمُّ الله تعالى جعله سببًا للضرر فَمَنْ تناول السم يـحصل له ضرر بـمشيئة الله أما إذا لـم يشأ الله تعالى أن ينضر إنسان بالسم فلا ينضر. كذلك الله تبارك وتعالى جعل العين أى عين الـحسود التِى تنظر مع حسد سببًا للضرر فِى الـمنظور لكن هذا الضرر بالعين لا يـحصل إلا بـمشيئة الله كم من إنسان يـحسد فينظر إلى الـمنظور بعين الـحسد فلا يـحصل له ضرر كما أن هناك أناسًا كثيرين تنظر إليهم عين الـحسود فينضرّون هذا كله بـمشيئة الله. كذلك السحر بعض الناس يـحصل لهم الضرر بالسحر وبعض الناس لا ينضرّون وذلك أيضًا كله بـمشيئة الله.
ومن الدليل على أنه لا ينضر أحدٌ إلا بـمشيئة الله أنَّ الله تعالى وَكَّلَ بالإنسان ملائكةً، اثنان  يكتبان ما يعمل الإنسان أحدهما يكتب الـحسنات والآخر يكتب السيئات وهناك غيرُ هذين مع كل واحد من البشر وظيفتهم أن يـحفظوا هذا الإنسان من الـمهالك لكنِ الـمهالكُ والـمضارُّ التِى قدَّر اللهُ أن تصيبَ هذا الإنسان فأولئك الـملائكة لا يـحولون بينه وبين تلك الـمضار لا بد أن تصيبه مع وجودهم لأنه لا يرد قدر الله تعالى أحدٌ. هؤلاء الـملائكة مخلوقون مثلنا لكن الله تعالى ميزهم بصفات ليست فينا هؤلاء الـملائكة يـحفظون الإنسان من مهالك كثيرة فلولا وجودهم لكانت الـجن يلعبون بنا كما يلعب الإنسان بالكرة وذلك لأنهم يروننا من حيث لا نراهم، هم معنا لكن لا نراهم، وهؤلاء الـملائكة يـحفظوننا فِى أكثر الأوقات منهم. أما الضرر الذِى قدر الله وعلـم فِى الأزل أنه يصيبنا من قبل الـجن فالـملائكة لا يدفعون عنا هذا بل مع وجودهم يصيبنا ذلك الضرر الذِى كتبه الله.
فمما جاء فِى العين أن العين حق أىْ شَىْءٌ ثابتٌ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلـم قال: "العين حق فلو كان شىء سابق الـقدر سبقته العين"2اهـ معناه أنه لو كان شىء يغلب قدر الله تعالى لسبقت العين الـقدر معناه العينُ لها تأثير كبير لكن لا شىء يغلب قدر الله. كان اثنان من أصحاب رسول الله خرجا مع الرسول فِى سفرة مع أصحابه فتجرد أحدهما من ثيابه أى مما سوى ما يستر العورة تجرد ليغتسل من ماءٍ مِن ماءِ الـمطر مجتـمع فِى بعض الصخور فرفيقه هذا مؤمنٌ من أصحاب رسول الله لَمَّا نظر إلى بياض جسمه وحُسْنِ منظره قال واللهِ ما رأيتُ كاليومَ ولا جلدَ عذراء أى بنتًا عذراء أى ما رأيت مثل هذا الـجسد فِى الـحلاوة والـحسن، نطق فأصابه بالعين فوقع فِى الـحال مرتـميًا، صُرع فِى الـحال فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلـم أن فلانًا وفلانًا ذهبا إلى مكان كذا فحصل لفلان أنه وقع فغضب الرسول صلى الله عليه وسلـم وقال: "لأىّ شَىْءٍ أحدكم يضر أخاه لـماذا لـم يبرك عليه"3اهـ أى لـماذا لـم يقل اللهم بارك فيه ولا تضره ثم الرسول دعا له فتعافِى وقام كأنه لـم يكن به شىء. لو لـم ينطق الناظر ما أصابه لكن الشخصُ لـما يُعْجَبُ بِشَىْءٍ بجمال شخصٍ مثلًا فيتكلـم ويقول ما هذا هذا شَىْءٌ حلوٌ اهـ لـما يتكلـم يـخلق اللهُ الضرر فِى الشخص الـمنظور إليه،
 وإن لـم يتكلـم لا يـحصل مهما أعجبه ذلك الشىء، إن لـم يتكلـم لا يـحصل الضرر للـمنظور، وإذا قال الشخص الناظر اللهم بارك فيه ولا تضره لا يـحصل بعينه ضرر للشخص. ثم إنه لـما ينظر هذا الإنسان بعين الـحسد إلى شخص أو إلى شىء يعجبه ويتكلـم على وفق ذلك ويـخلق اللهُ الضرر فِى هذا الإنسان الشيطانُ أيضًا تلك الساعة يلاحظ أن هذا الإنسان ضرب هذا الإنسان بعينه فيصيب ذلك الإنسان فيزداد الضررُ فِى هذا الشخص، أما إذا قال الناظر اللهم بارك فيه ولا تضره فيكون حَصَّنَ ذلك الإنسانَ حتى لا ينضر بعينه.
ثم أيضًا كثير من إصابات الـجن للبشر إنـما تكون فِى مـحل الغُسل وفِى الـخلاء فإذا قال الإنسان قبل أن يـحط رجله فِى الـخلاء بسم الله وعند التجرد للاغتسال قال: بسم الله الذِى لا إله إلَّا هو يُحفظ من إصابة الـجن له وهو فِى هذا الـمكان. فِى زمن سيدنا علِىّ كانت امرأةٌ اغتسلت فِى مكان يبال فيه وما تَحَصَّنَتْ ما قالت: بسم الله ولا قالت: بسم الله الذِى لا إله إلَّا هو فإذا بها تنصرع على الأرض فَأُخْبِرَ سيدُنا علِىٌّ رضِىَ الله عنه فرقاها فقامت وليس بها شَىْءٌ. وقد قال صلى الله عليه وسلـم: "أكثر من يموت من أمتى بعد كتاب الله وقدره بالأنفس"4اهـ الـمعنـى أن أكثر من يمرض مرضًا يؤدّى إلى الـموت فِى أمتِى يكون من العين هذه الأمراض التِى تكون مُعْضِلَةً
لا ينجح علاج الأطباء فيها تكون من العين. فإذا أراد الشخص أن يـحصن ولده يقول: "أعيذك بكلـمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة ومن كل عين لامَّة" اهـ فإذا قال هذا حَصَّنَ ولده فإن كان أولاده عددًا يـحصنهم جملةً فيقول: أعيذكم وإن شاء يـحصن هذا بـمفرده ويـحصن هذا بـمفرده ويقول: أعيذكَ.
انتهى والله أعلم وأحكم.
------------------

1- مضى عليها إلى يومنا هذا نحو مائتين وألف.
2- رواه مسلم في صحيحه باب الطب والمرض والرقى.
3- رواه بن حبان قي صحيحه باب ذكر الأمر لمن رأى بأخيه شيئًا حسنًا أن يُبَركَ لَهُ.
4- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده باب بيان مُشْكِل ما رُوِى عن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في العين أنها حقٌّ وفي الاغتسالِ لِمَن بُلِى بِها


جامع الخيرات
الجزء الثاني

قائمة جامع الخيرات 2